قال تعالى في سورة آل عمران – 190: { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } * { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } *
ففي هذه الآيات تحدي لعقولنا، فالله تعالى يخبرنا أنه بخلقة للسموات والأرض وحدوث إختلاف في الليل والنهار آيات علينا التفكر بها، وهذه الآيات تتضح لـ ” لأُوْلِي ٱلأَلْبَاب”، هؤلاء هم الذين يتفكرون في هذا الخلق ويقولون “… رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ “.
الإعجاز العلمي في إختلاف الليل والنهار في قوله تعالى { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } إلى قوله “رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ“
السموات والأرض خلق عظيم ونادر، لأن فيه من المواصفات ما يندر وجودها في الكواكب الأخرى، ولا مكان للعشوائية فيها، وهذا ما وضحناه في مقالتنا العميقة علمياً “فرضية الأرض النادرة في القرآن” والتي تقارن الآيات أو المزايا التي خصها تعالى بالسموات والارض مع المزايا التي وضعتها فرضية الأرض النادرة لوجود كوكب صالح للحياة، تجدون كامل المقالة على هذا الرابط.
يبقى السؤال، ما القصد ب”إختلاف الليل والنهار”، فمن المؤكد أنه لا يتعلّق بوجود الضوء من عدمه، لان الآية لم تقارن “بين” الليل والنهار، وانما اختلاف الليل مع الليل والنهار مع النهار. بحثت في كتب التفسير عن هذا الموضوع، ووجدت الغالبية لا تتطرق الى تفسير “إختلاف الليل والنهار”، حتى وجدتها في تفسير إبن كثير 774هـ :
“{ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } أي تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيراً، ويقصر الذي كان طويلاً، وكل ذلك تقدير العزيز العليم، ولهذا قال تعالى { لأَيَـٰتٍ لأُِوْلِى ٱلأَلْبَـٰبِ } أي العقول التامة الذكية، التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون، الذين قال الله فيهم { وَكَأَيِّن مِّن ءَايَةٍ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } يوسف 105 ـ 106 ثم وصف تعالى أولي الألباب، فقال { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ }.“
“و الشوكاني 1250هـ قال: “وصفاتهما { وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } أي تعاقبهما، وكون كل واحد منهما يخلف الآخر، وكون زيادة أحدهما في نقصان الآخر، وتفاوتهما طولاً، وقصراً، وحراً، وبرداً وغير ذلك { لآيَاتٍ } أي دلالات واضحة، وبراهين بينة تدل على الخالق سبحانه.“
ورد مصطلح اختلاف الليل والنهار في سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة الجاثية، وسورة يونس، وسورة المؤمنون، فهناك تركيز وتأكيد على هذا الخلق، وإذا اردنا التفكّر بهذا الخلق، علينا معرفة السبب المؤدي لاختلاف طول النهار والليل واختلاف حرارة الأيام خلال السنة.
تدور الأرض حول الشمس بمدار شبه دائري، أي ان المسافة بين الأرض والشمس شبه متساوية، وهذا يعني أنه من المفترض ان يبقى الليل والنهار متساويان في الطول وتكون الحرارة متشابهة في نفس المكان وعلى مدى السنة، ولكن هذا عكس الواقع، إذ يكون النهار قصيراً وبارداً في فصل الشتاء وطويلاً ودافئاً في الصيف. وهذا ما طلب الله منّا ان نتدبره أو نعقله أو نتفكّر به.
السبب في هذا الاختلاف هو أن محور دوران الأرض حول نفسها يميل بمقدار 23.5 درجة عن محور دوران الأرض حول الشمس كما هو مبيّن في الصورة التالية، ففي فصل الصيف، تكون الشمس عامودية على مدار السرطان وبذلك يكون تركيز أشعة الشمس أعلى على النصف الشمالي من الكرة الأرضية والمساحة المعرضة للشمس أكبر، وهذا يفسّر ارتفاع الحرارة في الصيف وطول النهار.
في الصيف، يكون تركيز اشعة الشمس أعلى على النصف الشمالي من الكرة الأرضية والمساحة المعرضة للشمس أكبر، وهذا يفسّر ارتفاع الحرارة في الصيف وطول النهار. |
يحدث العكس في فصل الشتاء، إذ يكون النصف الشمالي معرضا لكمية اقل من اشعة الشمس ويكون تركيز أشعة الشمس أقل لكل وحدة مساحة، مما يجعل النهار أقصر والحرارة أقل من الصيف، ففي فصل الشتاء، تكون الشمس عامودية على مدار الجدي في النصف الجنوبي.
بعد نصف سنة، تدور الأرض نصف دورة حول الشمس، ويصبح النصف الحنوبي معرضاً لكمية أكبر من أشعة الشمس فيزداد طول النهار في النصف الجنوبي وترتفع الحرارة (صيف)، بينما يقصر النهار في النصف الشمالي وتقل الحرارة (شتاء) |
لكي يكون هناك “ٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ”، يتوجب توفّر الشروط التالية: 1- دوران الارض حول نفسها 2- دوران الارض حول الشمس 3- ميل محور دوران حول نفسها بقدار 23.5 درجة عن محور دوران الأرض حول الشمس 4- ان تكون الأرض كروية 5- أن الأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس. وهذا ما تحدانا الله به! إحذف أي من هذه الشروط، ولن تحصل على “ٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ” الذي نعيشه كل يوم!
كان المسلمون يعرفون علمياً أن الأرض كرة، فقد كتب أحمد بن عمر أبو علي ابن رسته، المتوفي تقريبا عام 300 هجري (912 ميلادي)، أي قبل جاليليو بـ 700 سنة، بأن الأرض كروية مقسمة الى 360 درجة وهناك خط الاستواء وحدد مدارا السرطان والجدي ومَيلهما عن خط الاستواء بـ 24 درجة. وكتب بأن اليوم مقسّم الى 24 ساعة.
أحمد بن عمر، أبو علي ابن رسته المتوفي تقريبا عام 300 هجري (912 ميلادي)
في حال عدم وجود إختلاف الليل والنهار، وبعيدا عن التقدم الحضاري في القرن الأخير، فستكون الحياة مملة بعض الشيء، كل يوم سيكون مثل سابقه، ولن تكون هناك فصول أربعة، ولن تكون هناك رياح تجارية “تصريف الرياح”، ولن تكون هناك هجرة للحيوانات والطيور، ولن تكون هناك مراعي، أو حتى القمح { وَٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ } * { فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَىٰ } الأعلى – 5، وستبقى حياة البشرية ضمن تجمعات محصورة في مدارات معينة دون أي دافع للتطور المعرفي، وقد تنتشر الحشرات والأوبئة، سيكون هناك غزارة للأمطار في مدارات معينة، مما سيؤدي الى انجراف التربة وتصبح هذه المناطق غير صالحة للزراعة. سيعاني ويصارع البشر وكافة المخلوقات من أجل البقاء!
ربنا إنك ما خلقت هذا الخلق البديع العظيم الشأن عبثاً، أو عارياً عن الحكمة، أو خالياً من المصلحة، بل خلقته مشتملاً على حكم جليلة، منتظما لمصالح عظيمة، سُبْحانَكَ؛ أي ننزهك تنزيها تاما عن كل مالا يليق بك، فَقِنا عَذابَ النَّارِ أي فوفقنا للعمل بما يرضيك، وأبعدنا عن عذاب النار.
يخبرنا تعالى ذكره، بأن هذا الخلق الذي صُمم بدقّةٍ بالغة، هو أساسي لوجود حياة متطورة على الأرض.
رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
بقلم: حسين أحمد كتّاب